جنبلاط بين ترسيخ الزعامة ونهاية الإمارة

كم بدا سوريالياً فجر الإثنين ١ تموز ٢٠١٩، وصواريخ الكروز الإسرائيلية تهدر على علو متوسط فوق جبل لبنان، بعد إنطلاقها من بوارج حربية في المتوسط قبالة السواحل اللبنانية، لتستهدف قواعد للنظام السوري وحلفائه من بينهم حزب الله، في محافظات دمشق، حمص وحماه..هدير تلك الصواريخ الاميركية الصنع والشديدة الدقة، إمتزجت بهدير إستنفار غير مسبوق شهدته أنحاء واسعة من قضائي عاليه والشوف، بعد يوم أحد صاخب ودامٍ، شهد إحتجاجات لأنصار زعيم المختارة على زيارة مقررة سابقاً لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وقطع طرقات، وتبادل إطلاق نار بين موكب وزير درزي متحالف مع حزب الله والتيار الوطني الحرّ، وبين مناصرين للحزب الاشتراكي، سقط على إثره مرافقين )٢) للوزير صالح الغريب ضحايا وعدد من الجرحى من الطرفين.

الإشتباك الدرزي-الدرزي، في ظاهره، يختصر في باطنه مجموعة توترات وتوازنات وحسابات، بعضها إقليمي، يتعلّق بتداعيات الصراع في سوريا وعليها، وبعضها داخلي مع سعي الطرف الفائز في إنتخابات الرئاسة، والغالبية البرلمانية، في تحجيم خصومه، وعلى رأسهم الوزير وليد جنبلاط، من خلال تقويه منافسيه داخل الطائفة الدرزية (الأمير طلال إرسلان، وئام وهاب..)، ومنحهم حصة من التعيينات الدرزية داخل الدولة، أو من خلال توسيع الحضور السياسي للتيار الوطني الحرّ في قلب الشوف وعاليه، تحت عنوان “حقوق المسيحيين” بعد نجاحه بالفوز ب ٣ نواب بفضل القانون التفضيلي-النسبي.

مما لاشك فيه أن التحديات التي تواجهها زعامة المختارة هي الأقسى، منذ إغتيال الزعيم كمال بك جنبلاط عام ١٩٧٧، حينها، أُلبس الشاب وليد جنبلاط (٢٨ عاماً) عباءة الزعامة مضرجة بدماء وأحلام ونزاعات تخطت حدود جبل لبنان، ولبنان الكبير..

لقد تمسك الدروز عبر التاريخ، بأرضهم واستشرسوا في الدفاع عنها، وذلك حماية لعقيدتهم، وسعوا باكراً لتشكيل حكم ذاتي في قسم من جبل لبنان، سعياً لحماية وجودهم، حيث شكلت زعامتهم خشبة خلاصهم في حين شكلت الكنيسة والأديرة سند وجود المسيحيين عبر التاريخ، ونجح التنوخيون في السيطرة على مرفأ بيروت وطرد الصليبيين من الساحل في بداية الألفية الأولى، وسيطروا على مساحة واسعة من غرب جبل لبنان، وخلفهم المعنيون بعد منتصف القرن الثاني عشر، ومقرهم بعقلين، وتفاوتت علاقاتهم بسلاطين مصر، وعلى مر السنوات والعقود، قادوا مذهبهم في معارك متعددة، هدفها الأول الحفاظ على أرضهم وعقيدتهم وإمتيازاتهم، وسعوا مراراً لإرساء حكمهم الذاتي، وإمارتهم في أقسام من جبل لبنان، وبرز الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي وسع حكمه، من إنطاكيا شمالاً الى صفد جنوباً، وتدمر شرقاً، والبحر المتوسط غرباً. ومن ثم خاض معارك مع والي دمشق أحمد الحكم المعين من قبل العثمانيين، أدت الى هزيمته، ونفيه وإعدامه في إسطنبول في ١٣ نيسان ١٦٣٥.

آل جنبلاط

إستقروا في جبل لبنان منتصف الألفية الأولى، أصولهم بحسب مؤرخين قد تعود الى عائلة جان بولاد وتعني بالكردية “ذو الروح الفولاذية” ، وبدأ نفوذهم يتسع منتصف القرن الثامن عشر، مع الشيخ بشير جنبلاط، بالتزامن مع إنتقال حكم الإمارة الى بيت الدين مع الأمير بشير الشهابي، وخروج الدروز من الحكم، وساهمت علاقات الأمير الشهابي (البعض يؤكد أن أصوله سنية فيما يعتبر البعض الآخر أنه تحول الى المسيحية المارونية) مع والي مصر محمد علي باشا في القضاء على ثورة بشير جنبلاط، وإعتقاله من قبل والي عكا ومن ثم إعدامه عام ١٨٢٥.

تغيير نظام وحدود

إنتهى الحكم الشهابي على عهد الأمير بشير الشهابي الثالث وتم إقامة نظام القائم مقاميتين ١٨٤٣-١٨٦١ حيث قُسِّم جبل لبنان الى قسم جنوبي يحكمه درزي وقسم شمالي يحكمه ماروني، ومع ازدياد التدخلات الخارجية أدت ثورة الفلاحين التي اطلقها طانيوس شاهين ابن ريفون-كسروان الى نزاع طائفي في ١٨٦٠ تخللته المجازر والتهجير لاسيما للمسيحيين في القسم الجنوبي من جبل لبنان ومدينة زحلة وحتى الشام، على إثرها، تم إقامة نظام المتصرفية بين عامي ١٨٦١ و١٩١٨ وانتقل الجبل الى نظام المتصرفية، يحكمها متصرف مسيحي عثماني غير تركي وغير لبناني.

ومع إنهيار السلطة العثمانية، وضع جبل لبنان تحت الانتداب الفرنسي وتم عام

١٩٢٠ إنشاء لبنان الكبير، وضمت الأقضية الأربعة الى جبل لبنان،

وتحول بذلك بني معروف إلى أقلية ديمغرافية، وفقدوا أي أمل بحكم لبنان، مع تقاسم السلطة مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، الموارنة في رئاسة الجمهورية والسنّة في رئاسة الوزراء والشيعة في رئاسة مجلس النواب، ولعب الدروز دوراً محوريا عبر زعامة المختارة وكمال جنبلاط في ثورة ١٩٥٨ وفي الإصطفافات الداخلية المتنامية الأبعاد الإقليمية، التي حضرت الساحة وشاركت في الحرب الأهلية ١٩٧٥-١٩٩٠ وقاد كمال جنبلاط الحركة الوطنية تحت شعار محاربة المارونية السياسية والمطالبة بإصلاحات دستورية ونظام حكم اكثر “عدالة”.

في مؤتمر الطائف ١٩٨٩ تم التفاهم على مجموعة إصلاحات دستورية بينها إقامة مجلس للشيوخ، يرئسه درزي، لكنها بقيت حبراً على ورق.

ترسيخ الزعامة واستعادة الإمارة

من أهم إنجازات وليد بك جنبلاط إستعادة زعامة المختارة قيادتها لبني معروف، من خلال إنتصار عسكري له ولحلفائه من السوريين والفلسطينيين، وسيطر عسكرياً على منطقة تمتد من خلدة الى الأولي ساحلاً ومن دير المخلص الى نبع الصفا جبلاً، وأنشأ الإدارة المدنية لتقوم بمقام الدولة أو الإمارة كما نجح في تحييد واستيعاب شخصيات “يزبكية”، وضمها الى زعامته، وهو آتٍ من زواج جنبلاطي-إرسلاني، فوالدته الأميرة مي شكيب إرسلان، وأبرز تلك الشخصيات : مروان حمادة، غازي العريضي، أكرم شهيب، وقد احتضن الأمير طلال ووالدته خولة فور وفاة الأمير مجيد إرسلان بمواجهة شقيقه فيصل.

إختياره بيت الدين مقر الإمارة الشهابية للاحتفال بالنصر في حرب الجبل وخطابه الشهير في أواخر ١٩٨٣ قائلاً :.. إنه يومك يا بشير جنبلاط.. في ابرز تأكيد أن الإمارة عادت الى بني معروف، والى آل جنبلاط تحديداً، ومارس نفوذاً مطلقاً على المنطقة، حتى الى ما بعد نهاية الحرب، وقد استطاع من خلال علاقاته بالنظام السوري، والرئيس نبيه بري، ورئيس مجلس الوزراء حينها رفيق الحريري، بالاحتفاظ بغالبية الامتيازات، وبحصة وازنة في السلطة، وكتلة نيابية كبيرة، بدأ هذا الدور يتعرض للضغط بعد تسلم بشار الأسد السلطة عام ٢٠٠٠.

لعب جنبلاط دوراً محورياً، بالتحالف مع المسيحيين المعارضين للهيمنة السورية متمثلين بمرجعية بكركي، وبالتنسيق اللصيق مع الرئيس رفيق الحريري في إخراج الوصاية السورية من لبنان، وفي انتاج التحالف الرباعي الانتخابي عام ٢٠٠٥، وأطلق الرصاصة الأولى سياسياً في ٧ أيار ٢٠٠٨، وتلقت مناطقه وزراً عسكرياً لتلك الاشتباكات، لابل بدا وكأن المجموعات الدرزية هي الوحيدة المستعدة للدفاع عسكرياً عن مناطقها، بعد الإنهيار السريع للمستقبل في بيروت، وتحييد القوات اللبنانية نفسها أو عمد حزب الله الى تحييدها حفاظاً على ورقة التفاهم مع التيار الوطني الحرّ.

الخصوصية الدرزية

يبدو أن هذا “التنظيم السياسي الذي يتحول بسرعة الى عسكري أهلي” للدروز، هو هدف حزب الله، الذي نجح في تحييد كافة محاولات إنشاء مجموعات مسلحة مناهضة له، في صيدا مع ظاهرة الأسير، ومخيمات بيروت في برج البراجنة وصبرا وشاتيلا، والسعديات، وحارة الناعمة، وعرسال، …

ساهم الميدان السوري، ونجاح النظام وحلفائه في إستعادة غالبية المحافظات، في إسقاط رهان كل الزعامات اللبنانية، على متغيّر عميق، يساهم في إضعاف حزب الله، لا بل وضعها في موقف دفاعي، عن مصالحها ووجودها داخل السلطة بالدرجة الأولى، والفاعلية ضمن الساح السياسية اللبنانية.

من ناحية استراتيجية، ورغم تضاؤل عددهم ديمغرافياً، الا أن إنتشار بني معروف الجغرافي محوري، فمناطقهم تفصل محافظة الجنوب عن بيروت وبيروت عن البقاع والجنوب عن البقاع، وتكتلات وجود البيئة الحاضنة لحزب الله هي في الجنوب والبقاع وبيروت وضاحيتها الجنوبية، وهذا من ابرز أسباب إسشتعاره بالخطر من التنظيم الاشتراكي.

أضف إلى ذلك تموضع الوزير وليد جنبلاط في الحلف السعودي-الاميركي ضد ايران، وليس صدفة إطلاقه عبر “روسيا اليوم” موقفه من هوية مزارع شبعا، قبل أسابيع، وذلك بعيد زيارة وزير الخارجية الاميركي بومبيو الى بيروت، ما أعتبر الطلقة السياسية الأولى في الحملة المستجدة ضد ايران، وأذرعها في المنطقة.

تحديات اللحظة

واضح أن زيارة الوزير باسيل الى عاليه أتت في توقيت بالغ التعقيد، فجنبلاط يستشعر بالطوق يشتد على زعامته وهي في فترة توريث دقيقة :

قانون الانتخاب قلص كتلته النيابية،فيما يتلقى الوزيران السابقان إرسلان ووهاب كل الدعم المالي والإعلامي والسياسي من إيران والنظام السوري والحزب والتيار الوطني الحر الحاكم

تحالف رئيس الوزراء سعد الحريري مع الوزير جبران باسيل، حرمه او قد يحرمه من عدد من المشاريع المقررة فور توافر تمويل سيدر

خسارته إمتيازات إعتاد عليها في العقود المنصرمة، ولعل تزامن الحكم القضائي الذي كسر قرار وزير الصناعة التابع له، والقاضي بإغلاق كسارات آل فتوش في عين دارة، مع إغلاق وزارة الداخلية التابعة للمستقبل معمل سبلين بسبب مهل وتراخيص تقنية، عزز الشكوك والفرضيات حول نيّة لعزله وتحجيمه. وهنا لن ندخل في المزايا الاستراتيجية التي تتحلى بها قمم عين دارة المشرفة على مناطق درزية واسعة .

ساهمت انتخابات ٢٠٠٩ ومحاصصتها في دق الإسفين النهائي في تحالف ١٤ آذار السياسي، ومرت السنوات من بعدها لتظهر التباينات العميقة عند كل استحقاق مفصلي في البلد، بين جنبلاط، الحريري وجعجع .

وتعرضت علاقة جنبلاط الحريري الى مجموعة انتكاسات، وأصبحت هشة الى درجة أن خلاف على بلدية شحيم يؤدي الى موجة تراشقات بين الطرفين.

علاقة جنبلاط-جعجع لم تصل يوماً الى حال الودّ، لكنها حافظت على التقاء مصالح ولو بالحد الأدنى، وإن كانت الثقة بين الطرفين تتعرض الى إهتزازات، لم يكن آخرها تسوية جنبلاط باقته الحكومية منفرداً، تاركاً القوات وحيدة لتقبع شوكها بيديها، وطبعاً فضل جنبلاط خيار سليمان فرنجية للرئاسة، فيما إختار جعجع العماد عون، عارض جنبلاط بشدة القانون الأرثوذكسي الذي وافق عليه جعجع ومن ثم تم تعديله الى النسبي-التفضيلي الذي اعتبرته القوات إنجازاً وعارضه جنبلاط بشدة.

حرب إلغاء؟

في صيف ١٩٩٣ كرر سمير جعجع أمام مستشاريه في غدراس جملة شهيرة : إني لا أفهم كيف يرضى رفيق الحريري ووليد جنبلاط بكل هذه الضغط على القوات.. ألا يُدركان أنهما سيكونان الهدف المقبل في حال نجحوا في إزاحتي!؟

فهل ينطبق هذا الكلام على جنبلاط اليوم؟ وماذا ينتظر من الحريري وجعجع؟

حجم الاستهداف الذي يتعرض له وليد جنبلاط اليوم يتخطى التحجيم بل قد يصل إلى حد “تنظيم الاستسلام” في ظل مواجهة غير مسبوقة يشهدها الإقليم، وقد أوقعه إشتباك “البساتين الدامي” في شرك صعب الخروج منه دون خسائر، خسائر يسعى جهده كي تكون محدودة، فيما يسعى خصومه أن تفتح باب متغيرات عميقة.

لعل الأشهر الثلاثة وبضعة مئات الأمتار التي تفصل بين إكتشاف وتدمير “نفق دير قوبل” و “إشتباك البساتين” الدامي، تؤشر الى حال الجهوزية التي تعيشها أقلية، إعتادت الدفاع عن أرضها وزعاماتها عبر التاريخ حفاظاً على وجودها وعقيدتها !! ولكن هل لديها اليوم وفي ظل الموازين الحالية مقومات الصمود؟!

أضف تعليق